شوبنهاور: هل الحب الرومانسي مجرد خدعة بيولوجية؟
يرى شوبنهاور أن الحب الرومانسي ليس تجربة روحية سامية، بل خدعة بيولوجية تنبع من إرادة الحياة. في هذا المقال، نتأمل كيف يفسر شوبنهاور الحب كأداة للتكاثر، ونتساءل: هل الحب مجرد غريزة متخفية؟ أم أن في التجربة العاطفية ما يتجاوز منطق البقاء؟

الحبّ في فلسفة شوبنهاور: حين يتحدّث الوجود بلغة الغريزة
يُعَدّ الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور من أبرز رموز فلسفة التشاؤم، وقد بسط رؤيته في مؤلفه الجوهري العالم إرادةً وتصورًا (1818)، الذي تجاوز فيه الطرح النظري إلى مقاربة شاملة لمباحث النفس، والأخلاق، والجمال، والانتحار، والحب، بوصفها تعبيرات متفرّعة عن الطبيعة الجوهرية للوجود.
وإذا كانت رؤيته للحبّ تتسم بظلال كثيفة من السوداوية، فإنها مع ذلك ليست بلا أساس. فمنذ وقت طويل قبل داروين ونظريته في التطوّر، بدا شوبنهاور كمن لمس نواة الحقيقة البيولوجية، حين تساءل: ما جوهر الحب الرومانسي؟ وما الدافع الكامن خلفه؟
ميتافيزيقا التمثُّل والإرادة
ينطلق شوبنهاور من تأويله للفلسفة الكانطية، التي ترى أننا لا نعرف الأشياء في ذاتها، بل كما تبدو لنا من خلال أدوات إدراكنا الحسي. فالعالم، بهذا المعنى، ليس ما هو عليه في جوهره، بل ما يُمثَّل لنا عبر تصوّراتنا.
إلا أن شوبنهاور يتقدّم على كانط بخطوة وجودية حاسمة، حين يقترح أن "الشيء في ذاته" ليس مجهولًا تمامًا، بل يُمكن النفاذ إليه من خلال خبرة واحدة لا تمرّ عبر الحواس: الوعي بالذات من الداخل، أي الإرادة.
ففي نظره، الإرادة هي القوّة الجوهرية التي تُحرّك كل شيء: طاقةٌ كونية أعمى، بلا غاية، تتجلّى في أشكال شتى من الكينونة، بدءًا من القوى الطبيعية وحتى رغبات الإنسان، حيث تتخذ الإرادة أعلى أشكالها تعقيدًا.
الحب بوصفه خضوعًا لإرادة الحياة
من هذا المنطلق، يرى شوبنهاور أن الحب الرومانسي ليس ظاهرة روحية أو عاطفية خالصة، بل تعبيراً مخادعًا عن إرادة الحياة، أي عن رغبة لاواعية في التكاثر واستمرار النوع.
وفي مقاله "ميتافيزيقا الحب"، يؤكّد أن انجذابنا العاطفي لا يقوم على اختيار عقلاني، بل على دافع بيولوجي خفي يوجّهنا نحو شركاء بعينهم، نعتقد – دون وعي – أنهم الأنسب لإنجاب نسل متوازن. فالحب، في جوهره، خدعة غريزية. وهو لا يهدف إلى إسعاد الفرد، بل إلى ضمان استمرار النوع.
وقد لخّص ذلك بقوله: «التكاثر هو الغاية القصوى لكلّ كائن عضوي، بل وأقوى غرائزه.»
انجذاب مبرمج وغريزة تتزيّا بالعاطفة
يعتقد شوبنهاور أننا لا نقع في الحب عبثًا، بل ننجذب إلى من نرى فيهم – على نحو لا واعٍ – سمات تُكمل نقائصنا الجسدية أو النفسية. نحن، بحسبه، لا نبحث عن الجمال المطلق، بل عن التوازن الوراثي.
ومن هنا جاءت فكرته الشهيرة: "الأضداد تتجاذب"، لأن كل طرف يسعى، عبر الآخر، إلى تعويض ميله عن "النموذج المثالي" للإنسان.
يقول:
«كلّ فرد يسعى، من خلال الآخر، إلى محو ما فيه من نقائص وانحرافات، كي لا تنتقل إلى الطفل المنتظر، أو تتضخّم فيه فتصير شذوذًا بيّنًا.»
سؤال النقد: هل الحبّ مجرّد غريزة متنكرة؟
رغم قسوة هذا التصور، إلا أنّه يقدّم رؤية حادة ومتماسكة لطبيعة الانجذاب الإنساني، تُساعد على تفكيك وهم العفوية الرومانسية، وتمنحنا أداة لفهم خياراتنا العاطفية على ضوء دوافع أعمق مما نُدرك.
لكن شوبنهاور، في وفائه لتشاؤمه الجذري، يُغفل ما في الحب من تجارب وجدانية ناضجة: علاقات تقوم على الصداقة والتكامل، لا على الرغبة وحدها. بل إنه، في مواضع أخرى، يشكك حتى في صدق الصداقة، ويذهب إلى أنها كثيرًا ما تُبنى على المنفعة، وأن "الأصدقاء" يجدون لذّتهم الخفية في ألمنا.
بين الحذر والفهم
ليست فلسفة شوبنهاور دعوة إلى العدم أو كراهية الحب، لكنها قراءة باردة لمحتواه التطوري، تُظهر أن ما نراه سموًا روحيًا قد يكون – في العمق – ترجمة ذكية لحاجة النوع إلى الاستمرار.
ولعلّ أهم ما تمنحنا إياه فلسفته، ليس الحقيقة النهائية عن الحب، بل الجرأة على طرح الأسئلة الصعبة:
هل نحب من نحب لأنهم حقًا يناسبوننا؟ أم لأن إرادة الحياة قررت – عبرنا – أنهم الأنسب لجيناتها؟
هل تلك الشرارة التي تشتعل فينا تمثّل وعينا؟ أم أنها استجابةٌ لاواعية لقوّة أكبر منا لا تعبأ بسعادتنا؟
في زمن تتضخم فيه مثالية الحب الرومانسي، تأتي فلسفة شوبنهاور كمضاد حيوي حاد، يذكّرنا أن الرغبة، مهما تزيّنت بالعاطفة، قد تكون مجرد قناع لمسرحية كونية أوسع لا نحكمها، بل نُستدرج إليها.